2- كلمة الدكتور/ عبد العزيز عبد الرحيم محمد أحمد العلامة علام ذلك الطود الأشم والبحر الخضم (دكتـور التجانـي محمـد حسـن عـلام)



العلامـة عـلام ذلـك الطــود الأشــم والبحــر الخضــم
(دكتـور التجانـي محمـد حسـن عـلام)

تتنـزل علينـا هواطـل النعـم علـي مـدار وحـدة الزمـن، بفضـل الله واكرامـه، ونحجـب بأعـداء أنفسنـا عـن الاستشعـار بالمنـن، حتـي نكـاد لا نلتقـط فضـل الله علينـا الا بعـد حلـول المقاديـر وبطـلان التدابيـر. ولـم يمتـن الله بفضـل علـي عبـاده مـن أئمـة الهـدي، أكثـر مـن امتنانـه بإتيـان القبـول والعلـم والحكمـة وحسـن الخطـاب، فـي عشريـن آيـة بيـن دفتـي المصحـف. وتعـرف ˮالحكمـة بأنهـا اكتسـاب العلـم والتجـارب، وثمرتهـا عمـل مـا ينبغـي كمـا ينبغـي فـي الوقـت الـذي ينبغـي، وهـي إلهـام عصـارة التجـارب واستخـلاص للعاقبـة بعـد استشـراف للمستقبـل. والحكيـم هـو شخـصٌ يرجـح الأمـور نحـو الصـواب بمـا امتلكـه مـن خبـرات عبـر تجاربـه فـي الحيـاة، لذلـك قـال أرسطـو ˮالحكمـة رأس العلـوم وهـي تلقيـح الأفهـام ونتائـج الأذهـان.
ذلـك الطـود الأشـم والبحـر الخضـم - لقـد أكرمنـا الله بمعرفتـه منـذ مطلـع 1980 م فـي صـرح العلـم والمعرفـة، كليـة العلـوم  بجامعـة الخرطـوم، أستـاذ جامعـي فـاق قامـة الاستعـلاء والتكبـر، عالمـاً ناطقـاً ومستمعـاً واعيـاً لطلابـه. وكـان يتدفـق حكمـة وخبـرة، متفتحـاً كالشمـس فـي بارحـة النهـار، لايخطؤهـا بصيـر ويحـس بحرارتهـا الكفيـف. وتقتضـي الأمانـة العلميـة عنـد الحديـث عـن عالـم بهـذه القامـة الرفيعـة، النظـر الـي اجتهاداتـه الذهنيـة وإبداعاتـه المعرفيـة، بمنظـور أفقـي ورأسـي، كرصـد الطائـر المحلـق فـي عنـان السمـاء Bird Eye View.
لقـد أحببنـاه وهـو يدرسنـا علـوم البيئـة التطبيقيـة، اذ انفتحـت عقولنــا لثــراء علمــه ووسـع خاطـره، وكـل وعـاء يضيـق بمـا جعُـل فيـه إلا العلـم فإنـه يتسـع. ورغـم ايمانـه بــأن جـودة الكـلام فـي الاختصـار، الا أنـه طـاف بنـا فـي رحـاب الحفـاظ علـي الثـروات القوميـة والاستخـدام الأمثـل للمـوارد الطبيعيـة مع أهميـة تأهيـل الغطـاء النباتـي والتصـدي لانحـدارات البيئـة عبر درء مخاطـر المهـددات البيئيـة بالحفـاظ  علـي  الحيوانـات  الوحشيـة ومضاعفـة الاهتمـام بمكافحـة التصحـر وزحـف الكثبـان الرمليـة.  وركـزت محاضراتـه وتجاربــه المعمليــة ورحلاتـه الحقليـة علي تقييـم كفـاءة المبيـدات ورصـد آثارهـا البيئيـة وتشجيـع الأبحـاث التي تـؤدي لاسنتبـاط وسائـل المكافحة المتصالحة مـع البيئـة بحجيـة ˮ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَـا وَأَلْقَيْنَـا فِيهَــا رَوَاسِـيَ وَأَنبَتْنَــا فِيهَــا مِــن كُــلِّ شَــيْءٍ مَّــوْزُونٍ.
ونحـن نستشعـر منـة الله علينـا حيـث أكرمنـا بأستـاذ غزيــر العلــم ومتكامـل المعلومــات، ممـا سهـل عليـه توطيـن المعرفـة، وكـان عندمـا يلاحـظ علينـا أعـراض التراخـي والفتـور فــي المحاضـرات، يخـرج بنـا الـي رحـاب أمثلـة تطبيقيـة فـي ذات سيـاق المحاضــرة مـن ابداعـات الشعـراء المبدعيـن فــي وصـف البيئـة. وبخلفيـة أن الخيـل أعلـم بفرسانهـا، كنــا نتفاعـل وباعجــاب مـع الفطنـة وقـوة الملاحظـة ودقـة الوصـف البيئـي فـي أشعـار طـه الضريـر وود ضحويـة وود عكيـر والحاردلـو، فتنتعـش عقولنـا من جفـاف منظومـة تطبيقـات العلـوم البيئيـة، ثم نرجع للمحاضـرة.
وخـلال فتـرة وجـودي المتصـل كأستـاذ بجامعـة الخرطـوم لأكثـر مـن ثلاثيـن عامـاً، لا أعـرف عالمـاً سودانيـاً يولـي عنايـة خاصـة مـع التميـز فـي رصـد وتوثيـق أنـواع ومناسيـب الحيوانـات والنباتـات السودانيـة، أكثـر مـن العلامـة. ويدعـم معارفــه العلميـة الواسعـة بمعـارف اجتماعيـة وجغرافيـة وتراثيـة، عززتهـا الرحـلات العلميـة والقـراءات المتعمقـة لأكثـر مـن خمسيـن عامـاً، أهلتـه جميعـاً للحديـث بموثوقيـة عـن القبائـل السودانيـة، مـن منظـور المفاهيـم والعـادات والموروثـات والتقاليـد. وخـلال نصـف قـرن مـن الرحـلات العلميـة، التـي جـاب فيهـا السـودان القـارة، تــراه موسوعـة متحركـة مـن القصـص والأسمـاء الثلاثيـة لكـل قـادة المجتمـع فـي جميـع المـدن والقـري والحـلال. ولذلـك تجـد الطـلاب متزاحميـن فـي مكتبـه ومتحلقيـن حولـه فـي طرقـات الكليـة، حتـي تكـاد تشفـق علـي صحتـه وعلـي وقتـه، ولكنـه كـان عالمـاً رساليـاً ويستمتـع بتشجيـع المواكبـة وتعزيـز روح المثابـرة والمنافسـة بيـن الطـلاب.  ونشهـد لله بأنـه كـان يدفـع فينـا قيـم المصابـرة والشفافيـة والترفـع عـن الدنايـا تحـت مفاهيـم: ˮحافـظ علـى الزهـرة تأكـل الثمـرة وظاهـر العتـاب خيـر مـن باطـن الحقـد وأن الأسـد لا يصيـد الفئـران. وحيـث أن المبانـي تحكـي همـة البانـي، لا يخطـيء الرصـد نجـاح طلابـه فـي حياتهـم العمليـة بعـد التخـرج، حيـث ساهـم بفاعليـة فـي إثـراء حياتهـم العمليـة بمـا يمتلـك مـن طاقـات مكتنــزة واضافـات حقيقيــة.
وارتبطنـا بـه بعـد التخـرج، اذ تنعمنـا بزمالتـه ومعرفتـه عـن قـرب، فتلمسنـا شغفـه للمواكبـة وتقديسـه لقيمـة الوقـت وتقديـره للجهـود والاستنفـاذ بالكامـل فـي عوالـي الأمـور، كمـا كـان خفيـض الصـوت، هـاديء النبـرات ويتخيـر كلماتـه بعنايـة قبـل النطـق بهـا. فـلا نكـاد نـراه إلا وهـو مكـب علـي الكمبيوتـر فـي مكتبـه أو الـلاب تـوب فـي غرفـة الأساتـذة، فـي حضـور يومـي، تضبـط عليـه بموثوقيـة ساعتـك، فـلا ينقطـع نظـره عـن الشاشـة الالكترونيـة حتـي وهـو يتنـاول إفطـاره مـع العصيـر. ولا أذيـع سـراً إذا قلـت بـأن احـدي حوافـز الاجـازة مـن الخليـج كانـت الالتقـاء بـه، وهـو يستقبلـك بابتسامـة تمـلأ الوجـه الوقـور مبـادراً بقولـه ˮاذا عنـدك وكـت تعـال نوريـك الجديـد عندنـا”. وتمتلـيء ذاكـرة كمبيوتـره بالجديـد المفيـد، الـذي لـن ولا تجـده الا عنـده، فالرجـل محصلـة لبوتقـة بنائيـة وتقدميـة استمـرت لأكثـر مـن 50 عامـاً فـي الرصـد العلمـي المتسـق والمتسـاوق، لكـل حيوانـات وبيئـات السـودان.
وابـان تولـي ادارة البحـث العلمـي والعلاقـات الثقافيـة بجامعـة الخرطـوم، شرفنـي بزيـارة صباحيـة قبـل شـروق الشمـس، وقـال لـي بأنـه يحلـم أن تحقـق الجامعـة عبـر ادارتـي انجازيـن، أولاً وضـع الآليـة المناسبـة للاستفـادة مـن مخرجـات الأبحـاث العلميـة للأساتـذة، بترويـج تطبيقاتهـا الـي متخـذي القـرار بالدولـة. ثانيـاً مـن المخجـل أننـا دولـة مـنَّ الله عليهـا بثـراء فـي الحيوانـات الوحشيـة (المستقـرة والمتحركـة) ورصدنـا 932 نـوع مـن الطيـور بالسـودان، وطلابنـا وأطفالنـا يشاهدونهـا فـي الفضـاءات الالكترونيـة، اننـا نحتـاج الـي حديقـة للحيوانـات الوحشيـة بالخرطـوم. وكمـا وعدتـه، قمـت بتسليـم أطروحتـه العلميـة المتكاملـة للحديقـة إلـي السيـد والـي الخرطـوم، والـذي أبـدي حماسـاً ووعـد خيـراً، وبـدوري استبشـرت كثيـراً إذ يقـع الأمـر المطـروح فـي بـؤرة التخصـص العلمـي للسيـد الوالـي. وضمـن فعاليـات أول مؤتمـر علمـي عالمـي شامـل لجامعـة الخرطـوم (2010 م) ابتدعنـا تقليـداً حسـناً لـم يـزل مستمـراً،  وهـو تكريـم 10 أساتـذة مـن ذوي الخبـرات التراكميـة مـع المواكبـة، علـي مستـوي رئاسـة الجمهوريـة، مـع 10 آخريـن يكرمـوا علـي مستـوي الجامعـة، ارتكـازاً علـي المهـام الأربـع للأستـاذ الجامعـي: التدريـس (نشـر المعرفـة)،  والبحـث العلمـي (تنميـة المعرفـة)، وخدمـة المجتمـع (تطبيـق المعرفـة) والابتكــار (تميــز المعرفــة). وكـان أستاذنـا الموسوعـة ضمـن المجموعـة الأولـي، ولكـن قلصـت الأسمـاء المرسلـة الـي القصـر الجمهـوري، ومـن ثـم خـرج مـن التكريـم، واعتمـاداً علـي ذات المعاييـر، أنـا علـي يقيـن مؤكـد بأنـه سيكـون مـن الأساتـذة المكرميـن بالمؤتمـر القـادم للجامعـة.
وممـا يؤسـف لـه مـع الشعـور بالكثيـر مـن الحـرج، بأننـا اعتدنـا أن نفيـض بشـراً وفخـراً ونشيـد بالجهـود المخلصـة مـع  فعاليـة المشاركـة ووفـرة عطـاء المحسـن، ولكـن بعـد انتقالـه إلـى منـازل الأمـوات، وهـذا ضـرب مـن ضـروب كفـران النعـم. والآن أحسـب – والله حسيبـه – أن أستاذنـا العلامـة انتقـل مـن مربـع الأحيـاء الـي مربـع الأحيـاء حقـاً، اذ انشغـل طيلـة فتـرة معرفتنـا بإحيـاء روح الفريــق والانتمـاء المؤسسـي ونشـر ثقافـة الاعتـذار وتقديـر جهــود الآخريــن، وتجذيـر إحسـاس الشعــور بمباديء بكـم ومعكـم. ورغـم أن العلامـة مقـل فـي الكـلام، شهـدت اجتماعـات مجالـس قسـم علـم الحيـوان وكليـة العلـوم، المستـوي الرفيـع مـن الموثوقيـة والاحترافيـة والمصداقيـة فـي أطروحاتـه ومداخلاتـه، مـع خلـوه مـن الأجنـدة الانتمائيـة والأحكـام المسبقـة وتكتـلات الضغـط.  لذلـك كانــت الثمـرة التلقائيـة لجهــوده المخلصــة ﴿ يَخْــرُجُ مِــنْ بُطُونِهَــا شَــرَابٌ مُخْتَلِــفٌ أَلْوَانُــهُ فِيــهِ شِفَــاءٌ لِلنّــَاسِ ﴾.
فالحمـد الله الـذي أكرمنـي بالتوثيـق الالكترونـي للدكتـور التجانـي محمـد حسـن عـلام فـي ثـلاث محاضـرات بفعاليـات البرنامـج الثقافـي العلمـي، ضمـن حصيلـة 127 محاضـرة عامـة بجامعـة الخرطـوم. وكلمة التيجانـي، مـن التيجـان، جمـع تـاج وهـو الإكليـل مـن الذهـب والحجـارة الكريمـة، وكمـا يقـول الباشـق الراحـل المقيـم بروفسيـر عبـد الله الطيـب ˮ لكـل اسـم نصيـب مـن مسمـاه ، فهـو حقـاً إكليـل مـن الذهـب والحجـارة الكريمـة ومحمـد وحسـن وعـلام. ويخطـيء الإعـلام المرئـي والمقـروء والمسمـوع، مـع الشعـور بالذنـب، عندمـا يفشـل فـي التقـاط أمثالـه مـن الموسوعـات العلميـة والنجـوم الزهـر التـي تسيـر فـي مـدارات مستقيمـة، لذلـك لا تـري إلا مـرة واحـدة، بـلا تكـرار. اللَّهُـمَّ إِنِّنـا نسْأَلُـكَ بِرَحْمَتِـكَ رَبَّ الْعَالَمِيـنَ أَنْ أستاذنـا نـوّر صُّـدُورنا، فأجْعَلْ لَــهُ نُـورًا فِـي قَبْـرِه وَتَكَـرَّمَ عليـه بنُـزُلَ الشُّهَـدَاءِ مَـعَ الْفَـوْزَ فِـي الْعَطَـاءِ مِـنْ كُـلِّ خَيـْرٍ وَعَدْتَـهُ أَحَـدًا مِـنْ خَلْقِـكَ أَوْ خَيْـرٍ أَنْـتَ مُعْطِيـهِ أَحَـدًا مِـنْ عِبَـادِكَ، وأدخلـه برَحْمَتِـكَ الْجَنـَّةَ يَـوْمَ الْخُلُـودِ مَـعَ الْمُقَرَّبِيـنَ الشُّهُـودِ الرُّكَّـعِ السُّجُـودِ الْمُوفِيـنَ بِالْعُهُـودِ - آميــن.
دكتـــور/ عـبـد الـعــزيـــز عـبــد الـرحيــم  محمــد أحمــد
مستشـــار البحـــــث العلمــــي
لمجموعــة شركــات الشيــخ عبــد الله بــن منصــور القحطانــي (السعوديـــة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق